محمد المختار السوسي (1898-1963)
بمناسبة مرور ستين عاما على وفاة العلامة محمد المختار السوسي (1963-2023)، تحتفي المؤسسة بذكرى رائد الوطنية المغربية والحافظ لتراث سوس الأنثربولوجي والتاريخي، من خلال تنظيم معرض لكتاباته، مرفق ببيليوغرافيا كتاباته المطبوعة المتوفرة في المؤسسة وما كتب عنه من كتب ومقالات باللغات العربية والفرنسية والإسبانية والألمانية.
محمد المختار السوسي عَلَمٌ بارز من أعلام الثقافة المغربية في القرن العشرين. نشأ في كنف أسرة أمازيغية اللسان، ذات تقاليد راسخة في التصوف والمعرفة العربية. تَيَتَّمَ صغيرا، فتَوَلَّت تعليمَه والدتُه، سليلةُ أسرة علمية عريقة، فحفظ القرآن. وتَعَلَّمَ بمدارس سوس العتيقة العربيةَ وأدبها والعلوم الدينية. كما انفتح بشغف ذاتي على كتب الأدب العربي والتاريخ، ففي العاشرة من عمره قرأ "ألف ليلة وليلة"، وانجذب إلى عوالمها الحكائية العجيبة، ومجتمعاتها المدينية الراقية. كانت معارفه التي تلقاها في البادية السوسية كافية لتؤهله ليجاري مسار أبناء الحواضر بمراكش وفاس والرباط، التي عُرفتْ آنذاك بتمركز التعليم العالي التقليدي. اعْتُبرت فترة التحاقه بتلك الحواضر (1918-1929)، فترة مفصلية في تشكيل "ثقافته الجديدة" على هدي "السلفية الوطنية" التي أكسبته نفورا من شوائب الطرقية الموروثة، ونزوعا إصلاحيا وطنيا، فشارك في تأسيس أولى الجمعيات السياسية السرية (فاس، 1926)، وجمعيات خيرية ومدارس حرة بمراكش (1929-1936). استفزت هذه الحيوية الوطنية أنظار سلطات الحماية الفرنسية، التي نفته إلى بلدته إلغ لمدة تسع سنوات (1937-1945)، لم يغادر خلالها قريته، إلا في سنة 1941 حين سُمِحَ له بالتجول فقط في سوس. بعد انتهاء فترة النفي عاد إلى مراكش (1945)، ومنها انتقل إلى الدار البيضاء (1951) التي استقر بها إلى أن اعتقلته السلطات الفرنسية مجددا (1952-1954). وبعيد الاستقلال عُين في مناصب وزارية مختلفة إلى أن وافته المنية في 17 نونبر 1963.
كان المنفى الإلغي (1937-1945) فترة انطلاق السوسي في حركة التأليف، مدفوعا بوعي حاد بأن "التحول من حال إلى حال" هو من "طبائع الأيام"، وأن هذا التحول الجاري في كل أنحاء المغرب زمن الحمايتين الفرنسية والإسبانية، سيجرف كل الميراث الثقافي الذي "اخترعه" المغاربة عبر التاريخ، للتكيف مع ضرورات العيش وإكراهات الطبيعة. فكان واجب المؤرخ، في نظره، هو الانكباب على توثيق ميراث "باديته أو حاضرته" من "نواح شتى سياسيا وعلميا وأدبيا واجتماعيا"، بما في ذلك أعرافها وعاداتها وأمثالها وحكاياتها وحتى "خرافاتها". كان السوسي يسابق الزمن، وهو يتنقل في مختلف أنحاء سوس، ملتقطا بحس إثنوغرافي عفوي تفاصيل المحيط الطبيعي لسوس، وأنماط الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية فيها. فحَوَّلَ تحرياته الميدانية ومعايناته المباشرة وروايات شفوية إلى نصوص، ذَكَرَ أنها تجاوزت الخمسين جزءا، أهمها موسوعته المعسول وغيرها. وقد نَعُدُّ هذه الغزارة في الكتابة ظاهرة ثقافية غير مسبوقة في التأليف المغربي، علما أن ما طبع من مؤلفاته في حياته وبعد مماته أقل مما بقي في عِداد المخطوط. لم ينفرد السوسي باختيار بيئته المحلية موضوعا للكتابة، فقد كان ذلك اختيارا موضوعيا لجيل من المثقفين المغاربة: مؤرخين وروائيين وقصاصين، كما بين ذلك عبد الأحد السبتي في بحثه "كتابة التاريخ في مغرب الحماية" (2013)، ومصطفى يعلى في أطروحته "ظاهرة المحلية في السرد المغربي"، فـ"المحلية" في الكتابة كانت ظاهرة ثقافية وَسَمَتْ الثقافة المغربية في أوج تحولاتها الحديثة.
لقد اهتدى السوسي بثقافته التاريخية والأدبية إلى اختيار نمطين للكتابة: الترجمة (البيوغرافيا) والرحلة، صاغ من خلالهما جل مؤلفاته، حيث وجد أنَّ هذين النوعين من الكتابة مناسبين أكثر من غيرهما "للاستطراد" و"حشر" ذلك الكم الهائل الذي جمعه من "أشتات أخبار" رجالات ونساء سوس في "العلم والدين والمجتمع والسياسة". ولئن كانت "كتابة التراجم والرحلات" من صنف التآليف الكلاسيكية المعروفة، إلا أن طريقة السوسي في الكتابة أضفت عليهما "حرارة متميزة"، بما ضمّنهما من "أحاسيس وتصورات"، بأسلوبٍ مفعم بمذاقات الأدب والتصوف والكتابة الصحفية، وهذا ما جعل "نصوص المختار السوسي" نموذجا غير مسبوق ليس في كتابة "التاريخ صناعة وعلما"، بل في أن "تنقل الزمان فنا وانفعالا" حسب عبارة المؤرخ أحمد التوفيق.